كان العراق حاضنة للتنوع، يعيش فيه الناس منذ آلاف السنين بشتى عقائدهم في واقع واحد، لكن الاستعمار والاستبداد، إضافة إلى التطرّف الذي غذته المؤسسات الدينية، كان كفيلًا بالعمل على إنهاء هذا التنوّع واستبداله بالعقيدة الواحدة والفكر الواحد، مع بث اللعنات للتعددية، سياسيًا وثقافيًا، وهذا ما جاء برواية "حمّام اليهودي"، للكاتب المغدور علاء مشذوب، والتي أرشفت لتاريخ مدينة كربلاء كتاريخ موازٍ يوثق للأحداث، مسلطة الضوء على التنوع الديني والمذهبي الذي كان سائدًا آنذاك، وخصوصًا تاريخ اليهود.
يغامر علاء مشذوب في التطرّق إلى المواضيع الشائكة الخاصّة بالتنوّع وسط مدينة آخذة بالتقلّص نحو الانغلاق واللون الواحد
في رواية "حمّام اليهودي"، والتي جاءت بـ336 صفحة، موزعة على ثلاثة أقسام، وهي من إصدارات دار سطور، يغامر مشذوب فيها إلى التطرّق إلى هذه المواضيع الشائكة بأغلب روايته في ظل عيشه بمدينة آخذة بالتقلص نحو الانغلاق بعد أن كانت مدينة حاضنة للتنوع، يعيش فيها الصابئي واليهودي والمسيحي والمسلم في إطار هوية جامعة متناسين الهويات الفرعية التي تفرّق بينهم.
اقرأ/ي أيضًا: بعد "حمّام اليهودي".. اغتيال الروائي علاء مشذوب في كربلاء
تسرد الرواية قصة اليهودي (يعقوب شكر الله) الذي رفض الهجرة إلى إسرائيل او أي دولة أوروبية أخرى ليهاجر إلى متصرفية كربلاء، بدأت أحداث القصة في نهاية عام 1918 وانتهت بعد أكثر من عقدين. تكشف لنا رواية مشذوب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة آنذاك، كما كشفت لنا الصراع العقائدي، مما يعزّز من جمالية الرواية التي عدها البعض "غرة أعمال الدكتور علاء مشذوب".
يفتح يعقوب حمّامًا وسط المدينة فيدور النزاع النفسي والاجتماعي بين المسلمين النزاع الذي كان مفاده هل يجوز أنْ يكون الراعي لنظافتهم، أو أن النظافة لا دين لها.
ما دفعني لقراءة الرواية هو صوت أزيز الرصاص، الرصاص الذي استقر في جسد مشذوب في 2 شباط/فبراير 2019، وقطع وصاله مع الحياة ليقتل في ساعة ستكون شاهدة على اغتيال أصحاب الرأي في العراق، ملاقيًا مصيره الذي سيلقاه كل الأحرار ليتوج حياتهم بالدم، فماذا ينتظرون غير الرصاصة التي تنهي حياتهم كما حصل مع نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة، وغيرهم ممن تسلحوا بالقلم وصرخوا بوجه واقعهم "لا".
أسباب الهجرة
يبدأ مشذوب روايته بالقسم الأول، والذي تضمن أسباب الهجرة، مثل وعد بلفور سيئ الصيت، والذي جعل الشعور العدائي عند العراقيين يتنامى بسبب تفاعلهم معه آنذاك، وأن المسلمين يضمرون العداء للبريطانيين المحتلين ومن يقدمون المساعدة لهم، في إشارة إلى اليهود الذين كانوا يجيدون عدّة لغات مما يسهل على البريطانيين تعاملهم مع الساسة العراقيين آنذاك، حيث كان كما ذكر في صفحة 9، أن "أغلب اليهود لا يخفون سعادتهم بخروج القوات العثمانية ودخول القوات البريطانية وكانوا مرحبين بهم".
يدور النزاع النفسي بين المسلمين حين يفتتح (يعقوب شكر الله) حمّامه وسط كربلاء وينطلق السؤال: هل النظافة لا دين لها؟
وهناك أسباب أخرى نفسية واجتماعية واقتصادية، فقد كان اليهود يبحثون عن مراكز تجارية نشطة، كانت متصرفية كربلاء تعد أهمها لكونها ذات طابع إسلامي فيها مراقد دينية سياحية، مما يجعلها تموج بالحركة النشطة، فضلًا عن كونها أرضًا خصبة للتجارة والعمل، وعندما احتل البريطانيون بغداد كان اليهود يشكلون عنصرًا مهمًا من حيث العدد والثروة.
اقرأ/ي أيضًا: آخر يهود العراق
وبعد أنْ أقامت مدرسة الاليانس الإسرائيلية في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه حفلًا تكريميًا للجنرال (ستانلي مود) أو كما يطلق عليه "فاتح بغداد"، تضمن الحفل كلمات الثناء والتبجيل للبريطانيين، وكيف أنْ بغداد حالفها الحظ أخيرًا لأنها صارت تحت هذا الحكم النزيه والشريف! ما دعى أحد اليهود الحاضرين ويدعى (داود سمرة) بأنْ يهتف بالضد من الجنرال ستانلي مود، ويصفه بالمحتل، وأنّ هذا الاحتلال سيعود بالضرر على يهود العراق، وعندما أراد الحراس إخراجه من الساحة رفض الجنرال ذلك، وقال إنه "جاء لإنقاذ العراق من براثن الإمبراطورية العثمانية".
لكن داوود رد عليه، إنكم بــ"احتلالكم العراق ستخلقون فتنة بين العرب أنفسهم وبين المسلمين وغيرهم من الملل"، معللًا ذلك بأنّ الشعب العراقي، شعب بسيط ومن السهل التأثير فيه من بعض المغرضين في أنّ اليهود موالون للمحتل البريطاني، عليكم أن "تشيعوا مبدأ المواطنة وأنّ اليهودية دين ليس لها علاقة بالمحتل"، وهو ما يذكره في صفحة 11 من الرواية، أن "العراق وطن الجميع بغض النظر عن انتماء المواطن الديني".
يحاول علاء مشذوب في هذه الرواية أنْ يؤرخ لمدينة كربلاء ويبرز معالمها التي طويها الزمن، فهي أشبه ما تكون رواية مكان، وربما ما دفعه ليكتب عن هذه الموضوعات، هو الطائفية السياسية التي سادت بعد 2003، خصوصًا بين السنة والشيعة وبين مختلف الأديان، الطائفية التي همشت نسيج هذا الوطن ودفعت أبناءه إلى الهجرة خارج حدوده، ويوضح مشذوب في الوقت ذاته كيف أنّ مدينة كربلاء كانت حاضنة للتنوع والمدنية، لذلك هو يتكلم عن اليهود هناك، هذا التنوع الذي انطفأت جذوته بعد عام 2003 ولذلك هو يدعو في كتاباته إلى المحافظة على تاريخ المكان، وأنّ كربلاء مدينة مختلطة وليس مقتصرة على أبناء مذهب واحد أو دين واحد كما يعرف الآن، مذكرًا الناس بتاريخهم وكيف كانوا وكيف أصبحوا، بعد أنْ فتكت بهم نيران الطائفية والتعصب الديني.
كانت مدينة كربلاء حاضنة للتنوّع فيها اليهودي والمسلم والصابئي والمسيحي على عكس ما حدث معها بعد حقب الاستبداد والغزو الأمريكي عام 2003
يستعرض علاء مشذوب دور الرواية في التاريخ لتكتب التاريخ الموازي، تاريخ المكان والأسماء والجماعات المختلفة، وليس تاريخ الحكام، وإنما تاريخ البشر، وبعبارة مشذوب، فأن الروية "تكتب ما لا يذكره التاريخ"، ولذلك يكون مشروع مشذوب الروائي أشبه بالتاريخ الموازي الذي يتكلم عن أولئك المنسيين، الذين لا يذكرهم أحد بفعل الصراعات التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق وما قبله من حقب الاستبداد في العراق، كما في رواية "حمّام اليهودي".
في كربلاء
يهاجر يعقوب وعائلته بواسطة سيارة ذات جسم خشبي من العاصمة بغداد الى أطرافها، فكانت محافظة كربلاء، ليسرد مشذوب لغة سلسة بعيدة عن التعقيد والتزويق اللفظي لتمر الأحداث بسلاسة يتجاوز فيها القارئ عقدة الرتابة والملل.
اقرأ/ي أيضًا: 13 رصاصة تستقر في جسد روائي عراقي.. وناشطون عراقيون: من قتله؟
"سجى الليل وهدأت الشوارع، فأشعل السائق المصابيح الصغيرة، المزروعة في سقف الباص من الداخل والتي كانت أسلاكها ظاهرة للعيان، غط البعض في نومهم ومنهم زوجتي ريم وولدانا، بقيت أنا مستيقظًا مستحضرًا الماضي وأسباب نزوحي وبُعدي عن أهلي واصدقائي".
تنتهي رحلة يعقوب بأن يسكن خان كبير يسمى خان "الجندرمة"، والذي كان فيما سبق يجتمع فيه الجيش العثماني. لم تتوقف الأسئلة عن طرق رأس يعقوب الذي أخذ يتجول في أزقتها مكتشفًا معالمها، والحرف التي كانت سائدة فيها، وعادات وتقاليد وشعائر أهلها.
يقول يعقوب في صفحة 26 من الرواية، أي "عبث هذا الذي أعيشه، هل أكون بخطوتي هذه قد جنيت على عائلتي وبالخصوص ولدّي يسع ودانيال، وكيف لهما أنْ يعيشا واقع جديد في مدينة لم تكن يومًا اعتيادية بل غارقة بالقدسية والقدم مدينة لم تغادرها الأحداث والنوائب يومًا"، تستمر الأسئلة وتنهال عليه حتى بعد أنْ يحصل على "بيت إيجار" في منطقة وسط المدينة ما بين الإمامين تسمى "باب النجف" ليكوّن بعدها علاقة وطيدة بين عائلته وعائلة المؤجر أكبر صادقي، الذي اشترط على يعقوب أنْ يأتي خلال شهر محرم وحتى الأربعينية من شهر صفر مستغلًا حجرة "السلامليك"، فقط مع الإعفاء عن الإيجار خلال هذه المدة. ليعيش يعقوب أجواء المدينة، وتزول كل الهواجس التي كانت تساوره حتى يشتري البيت، وبعد أنْ يكتشف إنّ هناك سوقًا خاصًا باليهود في كربلاء يسمى "عكَدة اليهود"، الأكتشاف الذي يجري تحولًا هائلًا في شخصيته، فيبحث عن مهنة مناسبة بعد أنْ ترك مهنته السابقة كصائغ ذهب، هذا التحوّل نكتشفه من الحوار الذي دار بينه وبين ابن عمه بنيامين في صفحة 42 والذي كانت لديه رغبة ملحة بالهجرة إلى إسرائيل.
"منذ وعد بلفور وهناك عداء خفي لدى العراقيين المسلمين تجاهنا نحن اليهود، عداء أحسه في عيونهم وتصرفاتهم.
ولكني لم أشعر بهذا الشعور منهم بل أنني أعيش أكثر من ثلاثة أشهر في أقدس مدينة إسلامية، ولم يظهر هذا الشعور عندهم اتجاهي. لماذا لا تقول الحقيقة؟ جمعية الاتحاد الإسرائيلي أو مدارس الأليانس كما يطلق عليها هي من تغذي هذا الشعور عند اليهود العراقيين بالحنين إلى أرض الميعاد وتدعوهم إلى الهجرة".
اندمجت أسرة (يعقوب شكر الله) بالمجتمع الكربلائي في علاقات متينة مع أناس لا يشاركونهم في التشابه الديني إنما في الإطار الوطني والإنساني
تندمج أسرة يعقوب بالمجتمع الكربلائي وتقوى وتشتد الوشائج ما بينها وبين الجيران الذين يتحدون معهم في الوطنية والإنسانية ويختلفون معهم في الدين والطقوس، بل أنّ عائلة يعقوب أخذت تنخرط في بعض طقوسهم ويدفعون التبرعات ويتبادلون الزيارات التي تحصل بمناسبة أو دونها.
ماء بلون الدين والدم!
يزاول يعقوب عدّة مهن في كربلاء من بائع أقمشة إلى صائغ، وبعد عدة زيارات لحمامات السوق أخذت تنمو عنده فكرة بفتح حمّام خاص به "الماء شبه مجان، إضافة إلى وقود الموقد الذي يسخن ماء الخزينة الذي يسمى "الطمة" لتنتهي أفكاره بفتح حمّام خاص به يسميه "حمّام الأمان"، الاسم الذي لم يلقَ حظه، فقد أصر أهل المدينة على تسميته بــ"حمّام اليهودي"، لكون صاحبه يهوديًا نجسًا "فالمسلمون حساسون اتجاه النظافة وإقامة طقوس الغسل والتطهير، وغيرها من المناسبات"، كما في صفحة 101، لكنه شعر بغبطة كبيرة بعد أنْ أخذ الموافقة الشفهية من سدنة الروضة العباسية.
اقرأ/ي أيضًا: قانون قدسية كربلاء.. "لمدينة أحلى وأجمل" بلا حياة!
هنا يلاقي يعقوب النفور من الناس على الرغم من أنه أعلن أنّ الغسل سيكون ليومين مجانًا لكن الإقبال كان ضعيفًا جدًا بعد أنْ شاع بين الناس أنّ صاحب الحمّام يهودي لا يمكن انْ يغتسل أو يُأكل عنده! "كيف يشرف يهودي على اغتسال الناس"، ينطلق هذا السؤال كثيرًا كما في صفحة 106.
مما جعل يعقوب يشعر باليأس فأشير عليه أنْ يؤجر الحمّام لمسلم وعنده ستحل المشكلة، الأمر الذي جعل يعقوب يلاحظ التناقضات التي يعيشها الفرد المسلم في كربلاء، فهو "في الوقت الذي يتعامل مع التركي والهندي والأفغاني وكل منهم يختلف عنه في القومية والشكل، والثقافة، ويتحد معه فقط في الدين والمذهب، يرفض الأكل والشرب والاغتسال في حمامات أناس يلتقون معه في النسب كوننا "أولاد عمومة" وأبناء وطن واحد، ويتساءل في صفحة 107، "هل من يفتح حمّام يصبح الماء بلون دينه أو دمه؟".
الشرارة الأولى للثورة
بعد أنْ انطلقت الثورة العراقية من كربلاء عقب صدور فتوى بوجوب الجهاد، وأطلقت دعوات للتظاهر، زاد شعور يعقوب بالانتماء لكربلاء "شعرت بالإنتماء لكربلاء على عكس شعوري عندما كنت في بغداد" يقول يعقوب في صفحة 112. ثم تأسست عدّة مجالس لحفظ الأمن وجمع الواردات للمعوزين من الثوار، وعندما تم إخماد الثورة ألقت الحكومة القبض على كثير من الثوار وسفرتهم إلى الهندية وسجنوا فيها حتى عام 1920، ثم صدرت بحقهم أحكام عسكرية بعد أنْ حوكموا في المحكمة الإنجليزية، لتبدأ هجرة الكثير من اليهود إلى كربلاء، ومن هنا بدأوا يسكنون منطقة النواويس وطويريج، لكن النسبة الأكبر فيهم سكنت منطقة "عين التمر" التي كانت تعد عاصمة اليهود آنذاك.
من يؤرخ للمكان هو الإنسان لأنه صانع الحياة.
ثمة سؤال يطرحه مشذوب في روايته عن من يؤرخ للآخر، المكان هو الذي يؤرخ للإنسان أم الإنسان هو من يؤرخ للمكان، ولأن مشذوب لا يحبذ الحلول الوسط، فأنه يميل إلى أنّ الإنسان هو صانع الحياة، وبالتالي هو من يؤرخ للأشياء ومن ضمنها المكان.
"حمام يعقوب" قبلة لليهود
بدأت مشاعر الكراهية لليهود من قبل المسلمين تأخذ بالنمو وتأخذ أشكالًا متعدّدة الكراهية والتي لا تصدر غالبًا من بسطاء الناس الذين لا تؤثر فيهم المعتقدات الدينية كثيرًا ولا يقومون بتوظيفها كأداة لإقصاء الآخر، ونفيه كفرد فائض عن الحاجة، على خلاف أولئك الذين تشربوا الأفكار الدينية الممزوجة بالسياسة من منابع متطرّفة، الأمر الذي لاحظه يعقوب بعد زواج ابنه يسع. إذ لم يلبي دعوته أحد بعد أنْ أعد وليمة للمدعويين، حينها تذّكر وليمته الأولى التي أعدها بمناسبة شراء بيت في كربلاء، وحضرها الكثير، حتى أنّ بعضهم عاتبوه لأنهم تفاجئوا بالخبر.
اقرأ/ي أيضًا: الأسئلة التي لا يُجيب عنها أحد في العراق
بعد الأحداث السياسية التي شهدها العراق في العقد الثالث من القرن العشرين إذ زاد عدد اليهود إلى مائة وعشرين ألف نسمة، وأخذت الأحداث تتواتر مع الأحداث التي تقع في فلسطين وتنشر عن طريق الراديو والصحف، وكان لهذه الأحداث الأليمة أسوأ وقع في نفوس العراقيين جميعًا، حيث "أقفلوا مخازنهم وعطلوا أشغالهم وعقدوا الاجتماعات المختلفة لإعلان احتجاجهم على سياسة الإنجليز واتخاذ فلسطين وطنًا لليهود".
جاء اليهود إلى كربلاء أثناء هذه الأحداث، وأصبح "حمّام يعقوب" قبلة لهم، واختبئوا عنده لفترة بعد الأحداث، انقسم المجتمع الكربلائي بين مرحّب وبين متحفظ، وبعضهم قال ليعقوب بطريقة فجة "مهما بقيت في هذه المدينة المتسامحة والأمينة فإنّ مصيرك الرجوع أما لبغداد أو لإسرائيل".
سؤال الانتماء
بقي يعقوب متشبثًا بجذوره، مفضلًا العيش وسط أناس يحبهم ويحبونه رغم اختلاف دينهم عنه، يفضلهم على أناس يشبهونه في الدين دون أنْ يكون هناك أي رابط إنساني بينهم.
كان يهود العراق يواجهون الامتحان في وطنيتهم وآدميتهم وانتماءهم إلى الأرض
يحاول مشذوب في "حمّام اليهودي" الإجابة على سؤال ماهو الانتماء الحقيقي، هل هو الانتماء إلى الدين أو الانتماء إلى بقعة جغرافية معينة، ليجيب على هذا السؤال بالقول في صفحة 199، إنّ "الانتماء الحقيقي للإنسان في حدود علاقته مع الآخرين، ومتى ما وجد تلك العلاقة، كان حريًا بأتباعها دون التواني في ذلك"، لذلك لم تكن تلك الأيادي الخفية تثير النعرات الدينية فقط، وتبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، بل وصل الأمر إلى أعمال العنف عن طريق استهداف تجمعات اليهود وحثهم على الهجرة وأصبحت حرب اليهود وقتلهم أحداثًا شائعة في بغداد، على عكس كربلاء التي لم تشهد أي أعمال عدوانية ضدهم.
الدرس الذي لم نستوعبه بعد
كانت مشاريع الصهيونية هي وراء هذا التشظي الذي أصاب المجتمع العراقي من خلال إثارة النعرات الدينية بين أبناء الوطن الواحد، وكان الشعب العراقي بمسلميه ويهوده هم الضحية في هذا التناحر، حيث يذكر مشذوب هذه الحقيقة في صفحة 218، بالقول "كان العراقيون يعادون الصهيونية ورجالها، وليس اليهود، ولكن من يستطيع الفرز بينهم، ففي الوقت الذي تعلن فيه الصهيونية العداء وتهدّد البلاد العربية بسيول من الدم، كان يهود العراق، ممتحنين بوطنيتهم وآدميتهم وانتماءهم"، ما أدى إلى طردهم من الوظائف من أعلاها الى أدناها، فقرروا تعطيل أشغالهم ومتاجرهم احتجاجًا على ما يحدث معهم، "جئنا أسرى مرغمين، خائفين، مقيدين، مكسورين، مفلسين، وعدنا هاربين، مرهوبين، مخذولين، مطرودين".
بقي يعقوب مثل شجرة تساقطت أوراقها بعد أنْ ضاق العراق باليهود فهاجر أقرباءه وأصدقاءه ولم تبقَ غير عائلته التي رسخت جذورها بكربلاء، ولم يعد هناك من بقايا فرح، مستسلمين للفراغ التام وسط مجتمع يحاول قتل نفسه دون أنْ يشعر.
ربما هذه الرواية درس أراد منا علاء مشذوب استيعابه بعد أنْ رسم لنا لوحة تنوعت فيها الألوان والأطياف والأديان همشتها غربان شرهة تعادي الجمال والتنوع، هكذا يكون المشهد حينما نتطرف لكل شيء، وينسى الإنسان ويتحوّل إلى مجرّد دمية تحركها أهواء السياسة بمشاريعها.
كان مشذوب يحلم بتحقيق مشروعه الذي أراد أن يعيد به التنوع إلى مدينته لكنه اصطدم أخيرًا برصاصات التطرّف وغادرنا إلى عالم اللاعودة
مشذوب يحلم بوطن تتنوّع فيه الأديان والطوائف ويعيشوا بسلام ومحبة بعد أنْ عد التطرف الديني سببًا لاستمرار الناس بالكراهية ولم يكن يومًا سببًا لإيجاد الحياة، مشذوب يحلم بواقع يحافظ على التنوّع، ولكنه لم يعرف أن هذا الواقع لن يرحم حتى الأحرار من أبناء الدين والمذهب الواحد، الواقع الذي ما انفك يكافئهم بوابل من الرصاص كلما قالوا "كلا" بوجه القباحة، كما حصل معه مؤخرًا في مدينته التي كانت تاريخيًا حاضنة للتنوع والتي أرادها ان تكون كذلك تقدس الإنسان مهما كان دينه او طائفته أو رأيه، لكنها وقفت بوجه مشاريع مشذوب الجامعة وأرسلته إلى عالم اللاعودة.
اقرأ/ي أيضًا: