أعدت صحيفة الغارديان البريطانية تحقيقًا يفصل للنظام البيروقراطي الذي أدار به تنظيم داعش المدن التي سيطر عليها تحت اسم "الدولة الإسلامية"، منطلقًا من نموذج مدينة الموصل في العراق، أولى المدن الكبرى التي فرض التنظيم سيطرته عليها. في السطور التالية ننقل لكم التحقيق مترجمًا بتصرف.
سعى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى إثبات شرعيته في مدينة الموصل العراقية، وذلك من خلال التحول من مجرد كيان متمرد إلى "دولة"، فإلى جانب القتل والإرهاب الجماعي، أدار التنظيم بيروقراطية فعالة، من جمع القمامة بنظام محكم، وعدادات الكهرباء الذكية.
في منتصف 2014، كان المسلحون الجدد بالموصل الذين أصبحوا داعش لاحقًا، مُرحب بهم على عكس القوات العراقية الوحشية المفعمة بالفساد
يغادر عالم الصواريخ السابق، صباح كل يوم منزله في مدينة الموصل، ويستقل الحافلات، أو يسير على قدميه، إذ لم يعد قادرًا على تحمل عبء وقود سيارته، لتلبية اتصال أحد الأصدقاء، أو للاطمئنان على والدته، أو للحصول على بعض بعض الكتب أو السجائر المهربة. وفي كثير من الأحيان كان يتجول بلا هدف، مسافرًا في مدينته.
اقرأ/ي أيضًا: قصة داعش.. "تمدد" سريع وانحسار مُكلف و"بقاءٌ" محتمل
وعندما يخيم المساء، يجلس في مكتبه الخشبي القديم، وينكب على مفكرته يدون أحداث يومه، إلا أن معظم ما كان يكتبه مجرد أمور تافهة، كسعر الطماطم، أو شجار دار بينه وبين زوجته، لكنه سجل أيضًا ملاحظاته حول الأحداث البارزة التي حدثت في الموصل.
ففي إحدى تدويناته التي كتبها، والتي تعود إلى شهر آب/أغسطس 2014، قال: "يجب أن أُعايش هذه اللحظة وأُوثقها. إننا نعيش مثل السجناء الذين يقضون عقوبة سجن طويلة. فسوف يخرج بعضنا وقد أنهى قراءة عشرات الكتب، والبعض الآخر سوف يخرج محطمًا ومدمرًا".
بحلول الوقت الذي توقف فيه عن الكتابة، كان قد ملأ خمسة مجلدات بالفعل، تحتوي تلك المجلدات على مذكرات يومية مكتوبة بخط اليد، لمدينة تقبع تحت الاحتلال، وتصوير لمحاولة تنظيم داعش إحياء اسمه من جديد، من خلال إدارة المدينة.
النشأة
في الأيام الأولى من شهر حزيران/يونيو لعام 2014، رُحب على نطاق واسع بالمسلحين الجدد في مدينة الموصل، فقد كانوا مهذبين في التعامل على عكس قوات الجيش العراقي الوحشي المفعم بالفساد، إذ وفروا حراسة للمباني العامة، وقضوا على عمليات السلب، وفككوا الحواجز الخرسانية التي خنقت المدينة.
كتب عالم الصواريخ: "لم يكن هناك مزيد من السيارات المفخخة، أو الاشتباكات، أو العبوات الناسفة"، مُضيفًا: "لقد حل السلام على الموصل أخيرًا، وأحكموا السيطرة على الشوارع، وكان الناس في حالة ذهول. كما سمحوا للناس بمغادرة الموصل، وسمحوا بتدريس المناهج الحكومية في المدارس".
كان هناك بعض الالتباس فيما يتعلق بهويتهم: هل هم من ثوار القبائل السنية؟ أم من الضباط البعثيين من جيش صدام القديم؟ أم مسلحون جهاديون مثل تنظيم القاعدة؟ فكل هذه المجموعات المختلفة، كانت واقعًا حقيقيًا في حياة المدينة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية على البلاد عام 2003، فعلى مدار هذه الأعوام، تنافست تلك الفصائل على السلطة في الموصل، ساعيةً إلى الشرعية من خلال شن حرب عصابات شرسة في المناطق الحضرية، ضد الاحتلال الأمريكي في بادئ الأمر، وضد الحكومات العراقية المتعاقبة بعد ذلك.
في الواقع، كان البعض يتعامل كشكل من أشكال حكومة الظل بالفعل، من فرض ضرائب على الشركات، واستقطاع نسبة مئوية من كل عقد محلي، أما الذين كانوا لا يمتثلون لهذه الأوامر، غالبًا ما كانوا يتعرضون للاختطاف أو القتل.
يقول عزام، وهو مهندس كهربائي في وزارة الطاقة بالعراق: "لقد دفعنا لهم نسبة مئوية من كل عقد لمدة عشر سنوات"، مُضيفًا: "كانوا يأخذون 8%، فقد كان رئيس مديريتنا يتلقى اتصالًا هاتفيًا منهم قبل عملية تقديم العطاءات، وكانوا يختارون من الذي يفوز، ومن الذي يُعين في أي وظيفة. فقد شُغلت ثلث الوظائف الشاغرة الجديدة بهم. ولم يكن يجرؤ أحد على عدم الطاعة. أما أولئك الذين لم يدفعوا، كانوا يتعرضون للاختطاف"، مُؤكدًا: "اُخترقت كافة المؤسسات الحكومية، بما في ذلك جهاز الشرطة".
وقال أيضًا: "عندما سقطت الموصل، ظهروا جميعًا على السطح"، فبعد يومين من سقوط المدينة، حضر أحد زملاء عزام إلى العمل مرتديًا "الزي الأفغاني"، وقدم نفسه على أنه المشرف الجديد لتنظيم داعش.
وثيقة المدينة
جميع انتصارات داعش السابقة انتكست، مقارنةً بإحكام قبضتها على مدينة الموصل، والتي تُعد واحدةً من أكبر الهزائم في تاريخ العراق، إذ سقطت ثاني أكبر مدينة عراقية، وطُرد ما لايقل عن 50 ألف جندي وشرطي من المدينة، وغنم التنظيم مئات الأطنان من الأسلحة، والمعدات، والمركبات المدرعة.
وفي الموصل، سعى التنظيم إلى تطبيق أكثر خططه طموحًا، والتي شكلت أساس مطالبته بالشرعية، والتحول من كيان متمرد إلى "دولة"، فأصدر التنظيم أول بيان له في غضون أسبوع، حمل اسم "وثيقة المدينة"، فمن خلال لغة قديمة تحمل إشارات دينية، هنأ داعش شعب الموصل بما أسماه "الانتصار الإلهي"، وأكد على تعهداته الأساسية، فجاء في البيان:
"أيها الناس، لقد جربتم جميع الأنظمة العلمانية، بداية من الملكية، ومرورًا بالجمهورية، وانتهاءً بالحكومة الصفوية الشيعية. لقد جربتموها، وها هي الآن تحترق بنارها. نحن هنا الآن تحت حكم الدولة الإسلامية، وتحت حكم إمامنا أبو بكر (البغدادي). وسوف ترون بإذن الله الفارق الشاسع بين الحكومة العلمانية التي تضطهد وتسطو على إرادة وطاقات شعبها وتمحو كرامته، ونظام حكمنا الذي يتخذ من كلام الله طريقًا له".
كان مشروع "الدولة الإسلامية" بمثابة محاولة أخرى من تلك التي سعت لبناء دولة مثالية، جميعها تقريبًا استندت إلى السلطوية والشمولية
وحظرت الوثيقة تدخين السجائر، وأكدت على بقاء النساء في المنازل، إلا أن الناس في الشوارع استمروا في التدخين، وازدهرت مقاهي الشيشة، وكانت النساء تخرج دون نقاب، وعادت الكثير من العائلات التي كانت قد فرت من الموصل من قبل.
اقرأ/ي أيضًا: داعش من "الدولة" إلى العصابة.. انحسارٌ مركزي وتمدد شبكي
كانت وثيقة المدينة مجرد خطوة أولى، إذ لم تنشأ ما تُسمى بـ"الدولة الإسلامية" في يوم واحد، بل نشأت بشكل متدرج على مدار شهرين تقريبًا، من خلال سلسلة من الإجراءات والمراسيم، فكانت كل خطوة جديدة تؤثر على قطاع مختلف من المجتمع، رافعةً من سقف المطالبات في كل مرة.
بشكل أو بآخر، كان مشروع "الدولة الإسلامية" بمثابة محاولة أخرى من المحاولات التاريخية التي سعت إلى بناء دولة مثالية، بداية من المحاولات البلشفية، وصولًا إلى محاولات طالبان، ففي البداية، يتم تطوير أيديولوجية تأسيس أسطورية، ومن ثم استخدامها لتطهير المجتمع من العناصر غير المرغوب فيها، واستخدام أبشع أشكال الوحشية للتصدي لأي مقاومة، وتشغيل شبكة مخابرات قوية لحث السكان على الإبلاغ بأنفسهم.
إلا أن الأنظمة الشمولية لا يمكن أن تستمر في ظل فكر الألفية والإرهاب الجماعي فحسب، فهم في حاجة إلى بيروقراطية فعالة، ومديرين مؤهلين.
وبالفعل، بدأ تنظيم الدولة الإسلامية في إجراء تعداد شامل للسكان في مدينة الموصل، وسُجل جميع أفراد الجيش والشرطة، والأطباء، والممرضين، والمهندسين، والمعلمين، بالإضافة إلى تسجيل أسرهم.
كما سُجل كل متجر ومصنع ومنشأة تجارية وفقًا لديانة وطائفة صاحبها، فقد أخبرني أحد الموظفين في وزارة الزراعة أنهم "جاؤوا إلينا، وفتحوا سجلات الأراضي الكبيرة"، مضيفًا: "لقد أرادوا أن يعرفوا أي الأراضي يملكها المسيحيون، وأيها يملكها السنة أو الشيعة. قلنا لهم إن هذه الوثائق تعود إلى فترة الحكم العثماني، وإننا نملك أسماء الملاك فقط ولا توجد طريقة لمعرفة ديانتهم، ناهيك عن الطائفة التي ينتمون إليها".
وبطريقة ستالينية محضة، استهدفت أول موجة تطهير، الحلفاء السابقين، أي فصائل المتمردين المسلحة الأخرى، فبدأ مسلحو داعش في احتجاز البعثيين وضباط الجيش. اختفى العشرات منهم دون رجعة.
بعدها بأسبوع، رسم حرف "ن" (اختصارًا لكلمة نصارى) على البيوت وواجهات المتاجر التي يملكها المسيحيون، وصدر مرسوم يطالب المسيحيين إما بالدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة المدينة دون أملاكهم. تعرض المسيحيون للتفتيش على حدود المدينة، وأُخذ بعضهم رهائن أو عبيدًا للجنس. وبعدها بأسابيع، صدر مرسوم آخر جعل النقاب إجباريًا، ومنع كل أنواع الاختلاط بين النساء والرجال.
وعندما عادت الحواجز الإسمنتية التي أزيلت سابقًا، للظهور في الشوارع مرة اُخرى، وأصبحت تشكل الآن جدارًا هائلًا حول المدينة؛ أصبحت الموصل عمليًا سجنًا كبيرًا مرفوع عليه أعلام مكتوب عليها شعار النظام الجديد "باقية وتتمدد".
وبعد فرض سلطته، وجه تنظيم الدولة طاقته نحو تشكيل إدارة محلية، فقام التنظيم بالتخلص من كل البنى والهياكل الحكومية القائمة، واستبدلها بالدواوين أي الوزارات، مثل ديوان الصحة والتعليم وديوان الخدمات والمالية والحرب والقضاء والأمن والزراعة وغيرها. كل ديوان يرأسه أمير، وبعض هؤلاء الأمراء أجانب. وجميعها يرأسها "الخليفة" ذو الرداء الأسود، محاطًا بمجلسه العسكري.
ولقد كانت الإدارة الجديدة في الموصل، بقيادة داعش، إدارةً هجينة، تمزح بين محاولات فرض نمط إدارة محلية حديث، لكن باستخدام سلوكيات، وأسماء وأزياء ولغة من قرون خلت.
يقول عزام، المهندس الكهربائي: "كان تنظيم الدولة الإسلامية، دولة إرهابية، ولكنها أيضًا دولة حديثة. بدت أزياؤهم وطريقة حديثهم كما لو أنهم يعيشون في العصور الأولى للإسلام، لكن من الناحية الإدارية، كانوا ممتازين، وأداروا دولتهم بكفاءة". وقد اندرج قسم الكهرباء الذي عمل فيه عزام تحت ديوان الخدمات الذي يرأسه أمير جديد فرنسي مغربي، كانت أول خطواته تنظيم تحصيل الرسوم.
يقول عزام: "عملية إصدار فاتورة كهربائية كانت تستغرق منا شهرين تقريبًا. عندما جاء تنظيم الدولة، قاموا بتبسيط النظام". كل النشاطات التجارية والمصانع والمتاجر تدفع رسومًا ثابتة، وبحسب عزام، ففي المناطق السكنية قام التنظيم بتركيب عدادات ذكية توفر قدرًا ثابتًا من الكهرباء في الشهر. "لم يجرأ أحد على عدم دفع فاتورة الكهرباء، خوفًا من العقاب المريع لمجموعة الحسبة (شرطة داعش)". وكانت سرقة الكهرباء جريمة قد يفقد مرتكبها يديه بسببها.
نفس طرق الجباء المبسطة استعملت في مسألة القمامة كذلك، إذ وقع كل شارع من شوارع المدينة تحت مسؤولية جامع قمامة معين، يقوم السكان بالدفع له. وأصدر التنظيم بطاقات بالقدر الذي يجب دفعه، ومر مفتش بشكل دوري للتأكد من أن الشوارع نظيفة، وأن الأموال تدفع. الخوف أجبر الجميع على الدفع في الموعد المحدد.
لقد كانوا بارعين في وضع طرق جديدة لتوليد الدخل، فعادت كل الأراضي والأملاك والمصانع المصادرة بالإضافة إلى الثروات المغتنمة وحقول النفط، إلى ديوان المال (وزراة المالية) الذي استعمل هذه الأصول والثروات لمكافئة "المؤمنين"، وتوليد الدخل على غرار مخطط بونزي كبير. قدمت المزارع المسروقة من الأقليات الدينية مثل الشبك واليزيديين، للاستثمار الزراعي المشترك لأعضاء التنظيم، ووزعت منازل المسيحيين وعرضت سياراتهم وممتلكاتهم في مزادات، ومثلت الأغنام المصادرة مصدرًا سهلًا للحوم بالنسبة لمقاتلي التنظيم.
كما بِيع الوقود المستخرج من سوريا لأي شخص راغب في تصفيته، فأنتج بعض السكان بترولًا رخيصًا باستخدام حارقات مصنوعة منزليًا؛ والبعض الآخر امتلك مصاف حديثة صغيرة، وازدحمت الطرق الصحراوية بين العراق وسوريا بناقلات البترول.
كذلك ازدهرت تجارة الأسلحة والقطع الأثرية المسروقة، والنساء والفتيات المستعبدات. وحرص مرتزقة ومنتفعو الحرب على استمرار قدوم المنتجات الغذائية والوقود حتى من دمشق، عابرة جبهات عدة، وهُرّبت المعدات الحديثة والمواد الطبية من تركيا.
كان داعش دولة إرهابية لكن حديثة أيضًا، وبينما بدت مظاهرهم بدائية كأنهم من القرون الوسطى إلا أنهم أسسوا نظامًا بيروقراطيًا ناجحًا
وكما هو الحال في أي مجتمع استبدادي، أحنى غالبية السكان رؤوسهم واستمروا في الحياة. وفي أحد الأيام، وجد عالم الصواريخ زوجته وابنته تعزيان جارة لهم تبكي. كان زوجها قد وقف في وجه تنظيم الدولة نيابة عن رجل عجوز اتهم بحلق لحيته، فجلد الرجلان، وأُمر جميع الذكور البالغين في الشارع بالمشاهدة. وعندما عاد العالم إلى منزله، قال له ابنه الغاضب: "كيف تسمح لهؤلاء الناس بالتحكم فيك؟".
يشرح العالم في يومياته: “يلومنا الناس على عدم المغادرة. قالت ابنتي الصغرى أن علينا الانتقال إلى كركوك. ربما كان عليّ أن أستمع لكلامها، لكني كنت خائفًا من المستقبل".
اقرأ/ي أيضًا: