يعتقد العراقيون أنهم إذا ما أرادوا الهروب من جشع المستشفيات الخاصة، فسيصطدمون بعدد من النفقات والإجراءات التي تقوم بها المستشفيات الحكومية ترهقهم مادياً وعملياً، فلا يتبقى لهذا الهروب أي معنى، بل قد يؤثر على فرص الحياة بالنسبة للحالات الحرجة أو المعقدة لذويهم، أو يفاقم من حالات أخرى.
في مدينة الطب "مجمع مستشفيات" التابعة للقطاع العام، ببغداد، كل شيء يباع بالنقود، إلا المرض والموت مجانًا!
"لقد اضطررت للخروج من المستشفى لشراء محقن طبي"، يقول أبو محمد، أحد ذوي المرضى المتذمرين قرب بوابة "مدينة الطب" وسط بغداد، مضيفًا: "كل شيء بنقود.. الموت والمرض فقط هو المجاني هنا".
اقرأ/ي أيضًا: أطفال العراق يموتون قبل تسميتهم
ومجمع مدينة الطب هو مدينة فعلاً، يقع وسط العاصمة بغداد في منطقة الباب المعظم، ويضم ست مستشفيات متعددة الاختصاصات يعمل فيها نحو 200 طبيب مختص، ويعتبر المركز الطبي الأكبر في العراق.
ويرتاد هذا المجمع، أغلب سكان العاصمة، ولا سيما ذوو الدخل المحدود، لكن فرض تسعيرات جديدة على الفحوصات وتذاكر المراجعة الطبية في المستشفيات الحكومية العراقية ومنها مدينة الطب، ساهم بتوسيع الهوة بين المواطن والوسط الطبي كجزء من القطاع العام في العراق.
و يقبع والد أبو محمد في إحدى ردهات العيادة الاستشارية، أو ما يعرف بمستشفى بغداد التعليمي، إحدى مستشفيات مدينة الطب. وقال لـ"ألترا صوت" بلهجة غاضبة: "لقد قمت باستجداء عناصر الأمن لمساعدتي بإنزال السدية التي تحمل والدي من سيارة الإسعاف إلى الأرض، ثم رفع والدي من السدية إلى فراشه".
وتابع أبو محمد: "كانت الأرض متسخة في ردهة الإنعاش، والرعاية من قبل الممرضين منعدمة تمامًا؛ على سبيل المثال، أحد الممرضين طلب مني ببرود تام، أن أركب القسطرة البولية لوالدي بنفسي"، متسائلًا باستنكار: "ألا تعتقد أن الحوادث التي تقع بين ذوي المرضى والكوادر الطبية مبررة؟ لولا الخوف من الله لأبرحت هذا الممرض ضربًا بسبب بروده!".
وتشهد العلاقة بين العراقيين والأطباء تدهورًا بعد عام 2003، بسبب ارتفاع أجور الكشف الطبي من جهة، وصعود سلطة العشيرة مقابل تراجع سلطة الدولة الذي أدى لملاحقة بعض الأطباء عشائريًا والاعتداء عليهم من قبل ذوي متوفين يرفضون تقبل حقيقة الموت.
ويقول عبد القادر إياد، أحد الإداريين في مجمع مدينة الطب، في حديث لـ"ألترا صوت"، إن "مشروع التمويل الصحي الذي أقره مجلس الوزراء عام 2016 تزامناً مع الأزمة الاقتصادية والمالية التي تبعت إعلان الانتصار على داعش، تم بموجبه استحداث شعب وأقسام جديدة في المجمع".
وفصل إياد: "تم استحداث أجنحة خاصة لجميع الأقسام والمجالات حتى لرقود المرضى"، هذا جانب من مشروع القانون، لكن الجانب الآخر تمثل كما أوضح إياد في "فرض تسعيرات جديدة على الفحوصات والتذاكر".
فزادت أسعار بعض التذاكر إلى ضعفين، أما الفحوصات على الأجنحة الخاصة فقد تضاعفت بشكل واضح، حتى وصل سعر فحص الرنين المغناطيسي إلى خمسين ألف دينار، أي أكثر من 40 دولارًا!
"هذا السياق يشمل جميع الفحوصات الأخرى"، يقول عبدالقادر، مبينًا أن من بين المستحدثات "الجناح الخاص في جميع المستشفيات و بجميع المجالات الطبية، وفرض فيه أسعار خيالية على إجراء العمليات داخل المشافي".
وبغرض الوقوف على تفاصيل أكثر بشأن حركة الخصخصة في المجمع الطبي الأكبر في بغداد، التقى "ألترا صوت" بأحد الأطباء المقيمين في مدينة الطب.
وقال الطبيب الذي رفض الإفصاح عن اسمه، إنه "تم التعاقد مع شركة السائدة التابعة لشركة سيمنز، لغرض العمل بالمشروع الوطني للمختبرات، مع منح الشركة نسبة من إيرادات المشروع، وهناك مشروع آخر لبناء مستشفى انعاش وتم التعاقد مع شركة كورية لغرض البناء والعمل، على أن يمنح المشروع للشركة بما يشبه المساطحة".
وأشار الطبيب إلى غياب الفرق الواضح بين القطاع الخاص والعام في مجال الطب، موضحًا: "يقوم الطبيب بتحويل مرضاه إلى عيادته الخاصة، لا سيما بعد إجراء عملية جراحية، غالبًا ما تكون المراجعة في العيادات الخاصة".
وأضاف: "بعض الأطباء يخيرون المرضى بين ردهة العمليات الحكومية ذات الجدول المزدحم، وبين العيادة الخاصة التي تمنح المريض موعدًا قريبًا وفرصة أكبر في الحياة".
بالإضافة إلى أن الفحوصات والتحاليل تبدأ أسعارها من ألف دينار (نحو دولار واحد) لتصل إلى 50 ألف دينار (أكثر من 40 دولارًا)، هذا غير النقص الرهيب بالأدوية في صيدليات المستشفيات، الأمر الذي يدفع ذوي المريض إلى الخروج والبحث عن صيدليات أهلية لشراء الدواء.
يغيب الفرق الواضح بين القطاعين العام والخاص في العراق، بسبب استغلال الأطباء للقطاع العام بتحويل مرضاه إلى عياداتهم الخاصة
وشهدت بغداد بعد عام 2003، إنشاء عدد كبير من المستشفيات الخاصة، أخذت مع مرور الوقت تستقطب الناس، مع تراجع الثقة بالمستشفيات الحكومية، والقطاع الصحي التابع للدولة.
اقرأ/ي أيضًا: