يُفسر الباحثون في الحضارة المصرية، سبب كره المصريين للخنزير، لأن الإله الشرير سيت تخفى بشكل خنزير أسود، واقترب من حورس بالخداع واقتلع إحدى عينيه. لكنهم أيضًا وبشكل غريب، يغضون النظر عن تجسّد الإله سيت في حروبه مع الإله حورس بشكل فرس النهر - كمثال - والحضارة المصرية كما هو معلوم، تقدس فرس النهر بشكل كبير، ولا تحمل أي عداء ضدّه، مع إنه يُصنّف من الآلهة الشريرة أحيانًا.
فائدة الحمار للمجتمع هي التي أنقذته من النبذ، بينما لم يكتب المؤرخون - باستثناء هيرودوتس - أي فائدة للخنزير بصورة عامة
عالم المصريات فلندرز بيتري يكتب جملة من الممكن التفكير بها بشكل يفتح مساحة أخرى النقاش "أما الحمار، فعلى الرغم من أن المصريين كانوا يعتقدون أن الإله سيت يتقمصه، فكان لذلك مكروهًا، فإن حاجتهم إليه لحمل أثقالهم حالت دون نبذه والتقليل من شأنه".
اقرأ/ي أيضًا: الخنزير رسول الآلهة الغاضبة (1 ـ 2)
توضح الجملة السابقة أن الخنزير والحمار كانا شكلين من أشكال الإله سيت، لكن "فائدة الحمار للمجتمع" هي التي أنقذته من النبذ، بينما لم يكتب المؤرخون - باستثناء هيرودوتس - أي فائدة للخنزير بصورة عامة.
بالمُجمل فقد تمثل الإله سيت بشكل فرس نهر، وخنزير، وحمار، وكلب، لكنه تم اختزاله بالخنزير فقط، بسبب أن الخنزير حيوان منفرد بين الحيوانات التي جسدت شكل سيت، بمعنى أن الحيوانات الأخرى اشتركت في تجسدات ثانية لآلهة ثانية. بينما ظل الخنزير صيدًا سهلًا ومنطقيًا لرواة الأساطير، فهو قاتل قوي، ومُخرب مزروعات، سريع التكاثر، مُشارك للإنسان في طعامه، وقذر وبلا فائدة.
وفي كتاب الغصن الذهبي يرى جيمس فريزر أن المصريين وحتى أهل بلاد الرافدين كانوا يقدّسون الخنزير لأنهم لا يميزون بين معنى المقدس والمُدنّس، لأنه يرى أن المُدنّس كان في الأساس مقدسًا.
وكما كلّ الباحثين، يُعيد جيمس فريزر كلام هيرودوتس بحذافيره عن المصريين وتعاملهم مع الخنزير، بل يعتقد أن بلاد الرافدين تفعل الشيء نفسه، لكن المشكلة أن البحث ليس علميًا وغير دقيق، لأنه لا يمكن اعتماد كلام هيرودوتس بسبب كثرة شطحاته الموجودة في كتابه. والتي لا يؤكدها على حد علمي أي مصدر آخر - فيما يخص جانب الخنزير - ففريزر وآخرون لا يسألون أنفسهم عن دقة كلام المؤرخ اليوناني. لكنهم يفسرونه كما هو موجود.
إن جملة مثل "وإذا لمس أحدهم خنزيرًا يصبح مدنسًا طوال ذلك اليوم" التي يوردها فريزر في حديثه عن إنسان وادي الرافدين، هي جملة مخطئة تمامًا، أولًا بسبب عدم وجود مصدر يؤكد هذا القول، والسبب الثاني مشهور ومتوارث عن إنسان الشرق الذي يتطهر بالماء من أي دنس يصيبه، فما الحاجة مع وجود المُطهر، أن يبقى الإنسان متدنسًا طوال اليوم!
أيضًا، وفي جانب آخر، يورد فريزر أدلته عن فكرة الخنزير المقدس "انتقلت نظرة المصريين التي تقدس الخنزير إلى العالم المعاصر بشكل معاكس تمامًا، حتى صاروا يعتبرون حليبه يسبب الجذام" ومصدر هذه الرواية هو المؤرخ اليوناني بلوتارخس - 46 ميلادية - "أن شعب مصر يعتقد أنه إذا كنت تشرب حليب الخنزير فإن الجلد سيصيبه الجذام".
ويرى فريزر "إن أكل حيوان مقدس غالبًا ما يعتقد إنه يسبب الجذام أو أمراض جلدية أخرى". ويورد أمثلة عن تقديس الخنزير لقبائل في جزيرة ويتار، وهنود أوماها في أمريكا الشمالية، وهنود السورينام، وغيرها من الأقوام والعشائر.
إن المشكلة في هذه الأمثلة، تكمن في عدم منطقية مقارنة أفعال ودوافع قبائل بدائية، مقابل حضارات عريقة مثل وادي الرافدين ووادي النيل، حتى فيما لو طبقوا الفعل نفسه، والسبب ببساطة يتمثّل في اختلاف الثقافات بين قبيلة بدائية ودولة ذات حضارة كاملة، بل إن الاختلاف يكون حتى بين الحضارتين المتقاربة - معرفيًا - في رؤيتها للشيء نفسه.
في كتاب الأساطير المصرية لجورج هارت، يمكن أن نجد اختلافًا بين حضارتين على الفعل نفسه "كان هناك افتراض أن فكرة خنوم الذي يخلق كائنًا بشريًا على دولاب الخزّاف... أثّرت في المعتقدات التي صورها الشاعر اليوناني هزيود في عمليه أصل الآلهة والأعمال والأيام. هناك أمر زيوس هيفايسوس بأن يصوغ امرأة من الطين هي باندورا... لكن من المؤكد أن نوايا زيوس الماكرة، بعيدة كل البعد عن روح الفضيلة عند خنوم". نحن هنا، ظاهريًا أمام فعل واحد - خلق إنسان - لكن بنيّتين مختلفتين، أحدهما ماكرة والأخرى طيّبة.
ومع افتراض صحة كلام هيرودوتس وفريزر - فإن المصريين بجميع طبقاتهم، كانوا يأكلون الخنزير في مناسبات خاصة، فما الفرق بين حليب الخنزير ولحمه؟! بل إن السؤال الأهم الذي يتم تجاوزه هو: لماذا يشرب المصري حليب الخنزير، في وجود حليب الأبقار والأغنام والماعز؟!
لا تبدو مسألة تحريم الخنزير أو نجاسته معقدة جدًا، فهي عادة مأخوذة من أصول البيئة التي نمت فيها، أعني حضارة وادي الرافدين ووادي النيل
أعتقد إن رأي جيمس فريزر الخاص بكون حليب الخنزير يسبب مرضًا جلديًا، وبالتالي فهو مقدس، هو رأي هش، لأن مواطني وادي النيل كانوا يأكلون الثور وهو من أهم رموزهم المقدسة. بل إن جميع حيواناتهم المقدسة القابلة للأكل والمرتبطة بآلهة - الأبقار، الأغنام، الماعز، السمك - كانت تؤكل من قبل الشعب بشكل طبيعي مع رمزيتها الإلهية الكبيرة. ومع ذلك، لم يترك المصريون أكل اللحوم الحمراء بسبب مرض النقرس الذي اكتشفه أطباء الفراعنة، والذي يأتي بالعادة من لحوم الآلهة التي تُعد مقدسة. ولم يعاملوا هذه الحيوانات مثل معاملتهم الخنزير.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يكره العرب الغربان؟
هناك سبب آخر يدعوني لرفض فكرة فريزر الخاصة بارتباط المقدس بالمرض، ففي بردية إيبرس توجد وصفة لعلاج تداعيات التراخوما، تتكون الوصفة من "دماء ثور ودماء حمار ودماء خنزير ودماء كلب ودماء ماعز" إننا نلاحظ هنا، استخدام دماء الخنزير عند أطباء المصريين القدامى للعلاج. هذه الوصفة مثلًا بصفتها "علاج" تنفي فكرة جيمس فريزر عن "طوطمية" الخنزير عند المصريين.
وبكل حال، لا تبدو لي مسألة تحريم الخنزير أو نجاسته معقدة جدًا، فهي عادة مأخوذة من أصول البيئة التي نمت فيها، أعني حضارة وادي الرافدين ووادي النيل، وانتقلت بالوراثة وتتابع الزمن نحو اليهودية والإسلام ساكني المنطقة نفسها، والسبب الرئيس الذي يرفضه مارفن هاريس وجيمس فريزر وحتى فراس السواح، هو قضية عادات الخنزير القذرة سببًا لنبذه.
الأمر المؤكد تاريخيًا، اهتمام حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل بالنظافة، بالذات التطهير الشخصي ونظافة المعابد، حتى أن الكاهن في هاتين الحضارتين، له مواصفات خاصة محددة. ابتداءً من سلامته البدنية واكتمال بنيته الجسدية، وحتى قوة نظره وسلامة أسنانه ونطقه، إلى ملابسه.
ومن البديهي والحال هذه، أن يُمنع دخول الخنزير لمعابد العراق ومصر القديمة، بسبب قذارته. بل إن أي إنسان قذر وملطخ بالطين والبراز - كعادة الخنزير في الحياة - لن يتمكن من الدخول لهذه الأماكن.
ويبدو أن الدين محكوم بشكل كبير بالبيئة والعادات التي انتقلت من الحضارات السابقة لليهودية والإسلام، فتشديدهما على النظافة والطهارة والختان بل حتى الكثير من القصص، هو إرث من حضارتي العراق ومصر، تلك الحضارتين النظيفتين.
وعلى العكس من ذلك، وبرغم أن المسيحية ظهرت في الشرق، إلا أن انتشارها كان في الغرب وصراعها مع روما على وجه الخصوص. جون لوريمو في كتابه تاريخ الكنيسة، يتحدث عن وجود المسيحيين في روما "كانت الكنيسة تتألف من مسيحيين من أصل يهودي، وآخرين من أصل أممي، بل كان هناك مؤمنون من بيت قيصر، وبين أفراد الحرس... إن التقليد الذي يذكر أن الرسولين بولس وبطرس استشهدا في مدينة روما في عهد نيرون تؤيده كتابات الأولين".
الأمر المؤكد تاريخيًا، اهتمام حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل بالنظافة، بالذات التطهير الشخصي ونظافة المعابد، حتى أن الكاهن في هاتين الحضارتين، له مواصفات خاصة محددة
بطرس الرسول أحد أهم شخصيات المسيحية، تمت على لسانه - بحسب الإنجيل - إباحة جميع المأكولات، وإلغاء التشريع الموسوي الخاص بالتحريم الغذائي: "فَرَأَى السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِنَاءً نَازِلًا عَلَيْهِ مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مَرْبُوطَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ وَمُدَلاَةٍ عَلَى الأَرْضِ. وَكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ الأَرْضِ وَالْوُحُوشِ وَالزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. وَصَارَ إِلَيْهِ صَوْتٌ: قُمْ يَا بُطْرُسُ، اذْبَحْ وَكُلْ. فَقَالَ بُطْرُسُ: كَلاَّ يَا رَبُّ! لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئًا دَنِسًا أَوْ نَجِسًا. فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضًا صَوْتٌ ثَانِيَةً: مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!".
اقرأ/ي أيضًا: هل يلزمنا أن نثقَ بالتاريخ؟
هناك ملاحظتان أوردهما بخصوص هذه الآية من الإنجيل، فهي تقول أن النبي عيسى وتلامذته لم يأكلوا شيئًا حرّمته شريعة النبي موسى، ومن ضمنه الخنزير، بدليل أن بطرس رفض الأكل من المائدة التي نزلت له أول الأمر "لم آكل قط شيئًا دنسًا أو نجسًا".
والملاحظة الثانية، تتمثل في عدم معقولية إباحة جميع صنوف الأكل، بحيث يكون المُحرّم منه خاضعًا لحكم الضرر على الإنسان، إن مقياس الضرر هو تطور الطب، وهذا يعني أن طعامًا ما، من الممكن الآن أن يكون محرمًا وبعد مدة يكتشف الطب عدم ضرره فيتم تحليله، وبعدها بتطور الطب قد نكتشف ضررًا آخر فنعود للتحريم.
إن النص السابق من الإنجيل، برغم عدم معقوليته من ناحية التحليل والتحريم، إلا إنه كان مناسبًا لبيئة وعادات أوروبا القديمة، فلا يمكن تحريم الخنزير في هذه المناطق التي انتشرت فيها المسيحية، بسبب تاريخيته كطعام رئيس عند شعوب الإغريق واليونان.
كان الخنزير وعدم التركيز على تطهير البدن، يسيران بخطين ثابتين في أوروبا القديمة "وقد تغدى اوديسيوس مع راعي خنازيره بخنزير صغير مشوي، وتعشيا بثلث خنزير عمره خمس سنوات" كما يذكر ول ديورانت في قصة الحضارة نقلا عن هوميروس.
أيضًا، يتحدث الشاعر هوراس - توفي عام 8 قبل الميلاد - أن أفلاطون قدّم خنزيرًا كاملًا على طبق لجماعته في الغداء، وفي حديث آخر له يصف وليمة حضرها حينما كان في روما "في تلك المناسبة أكل الجنتلمانات الرومان خنزيرًا وحشيًا مبردًا بكل أنواع التوابل والخضراوات، والمحار والقواقع والصلصة الفاخرة، مع نوعين من سمك التربوت وصحن كبير استلقت عليه سمكة كبيرة كأنها تسبح بين سمك الشرمب، مع نكهة من سمك أسبانيا وخمرة اليونان ونبيذ من لسبوس وبهارات بيضاء، مع ديك مطبوخ بالقمح وأكباد الأوز وكتف أرنب وشحارير وحمائم غابات".
وبعيدًا عن أي سخرية، ففي حال مقارنة محتويات الملاءة العظيمة التي نزلت على القديس بطرس في سفر أعمال الرسل بمائدة هوراس، فإننا سنجد تشابهًا كبيرًا بين محتوياتهما. فكيف يمكن للإنجيل أو لبطرس الرسول، تحريم كل هذا الطعام في هذه الأرض التي ستصبح نقطة انطلاق المسيحية نحو العالمية؟
أما من ناحية النظافة، فتاريخ أوروبا سيئ جدًا من هذا الجانب. حتى القرن الثامن عشر كانت غالبية أوروبا قذرة، كان هوراس يعاني من أغطية موائد الولائم التي كان يُدعى لها "إنه يرسل دعوته إلى صديق مع وعد إنه إذا حضر فلا الأغطية ولا المناشف يمكن أن تكون في حالة تثير قرفه، ويشكو متسائلًا لماذا تحدث هذه الأشياء مع أن النظافة سهلة ورخيصة".
إنني لا أقول إن المسيحية تدعو لعدم النظافة، لكنها لغرض كسب أكبر عدد ممكن من الأنصار والسعي نحو العالمية، حاولت إلغاء ضغط الشريعة اليهودية وطقوسها التطهيرية المتشددة في الطعام والعادات الشخصية. وبرأيي أن هذا هو السبب في نجاة الخنزير هذه المرة من الكراهية التي كانت تثار في نفوس بلاد وادي الرافدين ووادي النيل واليهودية. ما أقوله هو إن المسيحية وجدت أن نمط عيش الخنزير متوائمًا جدًا مع نمط عيش البشر في أوروبا القديمة، لذا كان من الصعب بل المستحيل عزله عن المجتمع.
إن ما يؤكد فكرة تأثر الدين بالمجتمع، هو رفض الكنيسة القبطية المصرية لأكل الخنزير، لكنها مع ذلك لا تعتبره حرامًا، بل مُضرًا. يقول البابا شنودة الثالث "ربنا في العهد الجديد لم يحرم الخنزير، لكن إذا كان مضرًا فلا نأكله، وعلى ما أظن يقولون إنه يتسبب بمرض الدودة الشريطية، فإذا كنت "غاوي" الشريطية، فهذا مزاجك، نحن لا نأكل لحم الخنزير أبدًا".
ما يؤكد فكرة تأثر الدين بالمجتمع، هو رفض الكنيسة القبطية المصرية لأكل الخنزير، لكنها مع ذلك لا تعتبره حرامًا، بل مُضرًا
ومن البيئة المصرية نفسها لا يصدف أن يُجيب سيد قطب في كتابه تحت ظلال القرآن بالجواب نفسه الذي ذكره البابا شنودة الثالث عن الخنزير "ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة وهي الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة".
اقرأ/ي أيضًا: