يُكمل الكاتب العراقي أزهر جرجيس مشروعهُ القصصي القائم على السخرية اللاذعة والكوميديا السوداء، والتي تنطلقُ غالبًا أو تبدأ من مشاهد مأساويّة حاصلة في العراق، ليعيد صياغتها وتحويلها إلى قصص تعرض للقارئ الجحيم العراقي بطريقة مختلفة وغير تقريرية أو مكرّرة. فبعد مجموعته القصصيّة الأولى "فوق بلاد السواد" صدرت قبل أيام قليلة مجموعته القصصيّة الثانية والموسومة بـ"صانع الحلوى" (منشورات المتوسط، 2017).
يُدخل أزهر جرجيس قارئ مجموعته الجديدة "صانع الحلوى" في متاهة سردية
يُدخل أزهر جرجيس قارئ مجموعته الجديدة، ذلك الذي لم يسبق وأن قرأ لهُ، في متاهة تبدأ من عنوان الرواية. إذ أنّ العنوان "صانع الحلوى" يحملُ دلالات غير معنيّة أو متعلّقة بما تحتويه المجموعة، ويبدو ذلك جزءًا من لعبته الهادفة لإدهاش القارئ في مجموعته المُنتمية للأدب الساخر الذي يشتغلُ عليه الكاتب ببراعة مكّنتهُ من وضع بصمته فيه بقوّة، مضيفًا أعمالًا جديدة للمكتبة العراقيّة التي باتت حافلةً بهذه الفئة من الأدب.
اقرأ/ي أيضًا: وليد السابق.. كائنات الرعب اللامرئية
لعلّ أبرز ما يُميّز مجموعة أزهر جرجيس الواقعة في 124 صفحة؛ هو السخرية اللاذعة في غالبيّة القصص، والكوميديا السوداء التي تُعزّز من وقع القصّة على القارئ، بالإضافة إلى مزج أزهر جرجيس للواقعي مع المُتخيّل، ولغتهُ الانسيابيّة والرشيقة التي يكتبُ بها. فضلًا عن طاقته الإبداعيّة الكبيرة في القصّ، والتي جعلت من حكاياته، على الرغم من قسوتها، مستساغة مرحةً تُعاد قراءتها دون ملل، مقدِّمًا من خلال ذلك قصصًا تتصلُ بشكلٍ مُباشر مع الواقع المؤلم الذي يعيشهُ أبناء جلدته في العراق على مدار سنوات طويلة تخللها القهر والجوع والموت الذي يوزّعُ بالمجان. ومحاولًا أيضًا تقديمها على طبق أنيق من السخريّة المرّة والنادرة بحسب قوله.
مقطع من قصّة "الكوخ الهنغاري"
أدخلتني إلى الكوخ، وقدّمتْ لي كبدة دجاج مهروسة بالسمن والشوفان، تناولتُها بنهم، وعيناي تدوران في المكان. كان كوخًا واسعًا من الداخل، مليئًا بقناني النبيذ الفارغة. وكانت رائحة البول تنبعث من الأرض والجدران. أخبرتني السيّدة باربارا فيما بعد بأنّها تمتهن صناعة النبيذ البيتي لتبيعه إلى صاحب بار في مدينة بودابست، وأنها اتفقت مع أحدهم قبل خمسين عامًا على صفقة نبيذ مُعتّق، ستجعل منها امرأة غنيّة. قالت بأنها تملأ القبو ببراميل النبيذ الخشبيّة، وإنها سعيدة في عملها، ثم طلبت منّي أن أقصّ عليها حكايتي.
أخبرتها الحكاية موجزةً، فأشفقتْ واغرورقتْ عيناها بالدمع، إذ عرفتْ بأنّي هارب من الحرب، وطلبت منّي البقاء. الهاربون من الحرب مثيرون للشفقة. وبلا تردد وافقتُ. عمل ومأوى، ماذا يريد الغريب أكثر من ذلك؟! لقد اتّفقنا على أن أعمل سبع ساعات في خدمة الحمير، ورفع الروث من تحتهم مقابل ثلاث وجبات من كبدة الدجاج الساخنة، ونومةٍ في الكوخ. لم يكن عملًا شاقًّا على كل حال.
وذات ليلة، تنامى لسَمْعي صوت من جهة القبو. كانتْ براميل النبيذ تهتزّ بعنف. حذّرتني باربارا من الدخول إلى قبو النبيذ سلفًا، لكنّها كانت تغطّ في نوم عميق، فأزحتُ الغطاء عن جسدي، وتناولتُ ساطور اللحم وهبطتُ السّلّم حافيًا. كنتُ أسير على أطراف أصابعي متمتمًا بكليشيه للحفظ، تعلّمتها من جدّتي سليمة.
أوقدتُ مصباح الزيت في الأسفل، وراقبتُ البراميل. كانت ثابتة، وليس من صوت في المكان غير صوت شخير باربارا الذي يتسرّب من الأعلى. اطمأنّ قلبي حينئذٍ فأطفأت المصباح وصعدتُ السّلّم على مهل، لكنّ اهتزازًا صدر من أحد براميل النبيذ جعلني أعود أدراجي، لأرى ما يحدث! أوقدتُ مصباح الزيت من جديد، وحملتُه، وتوغّلتُ في القبو أكثر، فكنت كلما اقتربتُ، خطوة ازداد الاهتزاز عنفًا حتى وصلتُ عند البرميل الأخير. كان يهتزّ مثل طفل، أصابته نوبة صرع. وضعتُ الفانوس جانبًا وتناولتُ ذراعًا حديديًا، كان مُلقىً على جنب، حشرتُه في غطاء البرميل، وفتحتُه، فقفز منه قزمٌ عارٍ.
اقرأ/ي أيضًا: